تمكنت شركة إنفيديا لتصنيع الشرائح الأميركية من مضاعفة أرباحها 3 مرات خلال عام واحد فقط مع تجاوز رأسمالها في البورصة ألفي مليار دولار، بعد أن هيمنت على سوق شرائح الرسومات المصممة لمهام الحوسبة المعقدة اللازمة لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تسارع الشركات إلى تطويرها.
يعود هذا الإنجاز إلى قدرة الشركة، التي تتخذ من كاليفورنيا مقرا لها، في وقت قياسي من تطوير الشرائح الإلكترونية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما جعل كل الشركات الإلكترونية تتهافت على إنفيديا لطلب مكونات معالجة البيانات، التخزين والذكاء الاصطناعي، لتفرض نفسها كعملاق في عالم التكنولوجيا.
الحديث السابق على مستوى الشركات، والأمر لا يختلف كثيرا على مستوى الدول التي باتت تعمل بتسارع على تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي واحتكاره، إذ لم يخف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلقه من الاحتكار الغربي “الخطير” لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، واعتبر أن روسيا بحاجة إلى استخدام أدواتها الخاصة لمنافسة روبوتات الدردشة الغربية “المتحيزة”.
وباتت مسألة الاحتكار تشكل هاجسا وكابوسا يرافق بعض الدول، الصين في مقدمتها والتي تصرف مليارات الدولارات من خزينة الدولة على شركات متخصصة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي عن طريق تقديم إعفاءات ضريبية لهذه الشركات أو إعانات، مثل برنامج “العمالقة الصغار” الذي وضعته الحكومة الصينية لرعاية 10 آلاف شركة ناشئة واعدة في مختلف القطاعات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، كما قامت الحكومات المحلية حتى في المقاطعات الفقيرة مثل لياونينغ بتقديم حوافز مماثلة لشركات متخصصة في الذكاء الاصطناعي.
تداعيات احتكار الذكاء الاصطناعي
ويقول استشاري التكنولوجيا هاني محمود لـ”الجزيرة نت” إن تسارع الدول والكيانات لاحتكار الذكاء الاصطناعي يعود لسرعة تطوره وامتلاكه القدرة الهائلة على تحويل وتطوير معظم جوانب الحياة، إذ يشكل الاحتكار عملية وصول حصرية إلى الأدوات والبيانات والنماذج الأساسية والمعلومات التي تتغذى بها أنظمة الذكاء الاصطناعي.
هناك دول وشركات كبرى تحاول الهيمنة على نشر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، واليوم أصبح من يمتلك المعلومات هو من يمتلك القدرة الكبيرة في السيطرة على العالم، إلا أن تداعيات الاحتكار كبيرة تتمثل بالحد من الابتكار من خلال تقليل إتاحة الأدوات والبيانات الأساسية وإمكانية الوصول لها، وتعطل المنافسة، وتهديد الخصوصية والحد من الديمقراطية في الأنظمة وتوسيع الفجوة الرقمية في العالم، وفق محمود.
ويضيف “يؤدي الاحتكار إلى التركيز على أهداف محددة حيث تكون الموارد محققة، وتكون الجهود مركزة على جانب واحد، لكن ذلك يساهم في نشر قيم ومعتقدات أحادية الجانب وهي لا تتناسب مع قيم الأطراف الأخرى التي تحاول الاستفادة”.
ويرى أن الإبداع في حالة الاحتكار سيكون محدودا لعدم وجود بيانات متاحة مما يؤدي لغياب المنافسة، بالإضافة لمخاوف أخلاقية تتمثل في تركيز السلطة في يد جهة واحدة مما يؤدي لإساءة استعمالها وهيمنته على العالم فيتم مراقبة البشر والتحكم بهم، عدا عن التكاليف الباهظة للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي.
ويساهم الاحتكار في التحيز للجهة المحتكرة والتمييز بين البشر بالتالي إن وجود بيانات على أنظمة متحيزة يمكن أن تؤدي لظهور تحيزات عرقية وتضخيمها مثلا كأن يتم تعيين موظفين لوظيفة ما بناء على قومية معينة أو بشرة معينة، وفق حديثه.
هل الاحتكار حق مشروع؟
يجمع غالبية الخبراء أن لاحتكار الذكاء الاصطناعي عواقب وخيمة، وأن سلبياته أكثر من إيجابياته، إذ تتركز السلطة في يد واحدة تفرض هيمنتها وسيطرتها على العالم، في حين هناك وجهة نظر أخرى ترى أنه من الذكاء احتكار الذكاء الاصطناعي وأنه حقٌ مشروع.
ويعرف المختص في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات، أحمد ارجوب، الاحتكار بأنه انغلاق الشركات أو المؤسسات أو الدول في عملية البحث وتصنيع وتطوير كل ما يتعلق بخوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، ويبرره قائلا “كل دولة تريد أن تمتلك وتسيطر على بعض التقنيات التي ستستخدمها كسلاح، وتعتبرها مقومات وإمكانيات لتكون دولة عظمى على خارطة القوى في المستقبل، لأن الذكاء الاصطناعي هو معيار القوة في المستقبل، بالتالي الاحتكار هو حق مشروع للدول التي تسعى لامتلاك تقنيات فريدة من نوعها وتقنيات قادرة على استخدامها كخط دفاع وخط هجوم في المستقبل القريب”.
ويؤكد ارجوب في حديثه لـ”الجزيرة نت” أن “الذكاء الاصطناعي بات أمرا واقعا، ويشكل سلاحا قويا وفعالا وسيحدد مقياس الدول من حيث قوتها وضعفها، فإذا كان قديما معايير قوة الدولة هي مدى امتلاكها للأسلحة أو الموارد الطبيعية أو البشرية أو غيرها فإن اليوم الأمر بات مختلفا، وسيكون معيار القوة لمن يمتلك هذه التقنيات ويحسن استخدامها وتطويرها”.
كما يرى أنه ليس من العدل الحديث عن فتح تقنيات الذكاء الاصطناعي أمام جميع الدول، لأن هناك دولا قوية سعت وامتلكت تقنيات فريدة وتعمل على تطويرها، في المقابل هل من الممكن منح هذه التقنيات لدول لم تسع أو تحاول لامتلاك مثل تلك تقنيات، بالتالي كلمة احتكار مبررة، وقد تكون خطوة تحفيزية للدول التي لا تمتلك هذا التطور والتي ستجد نفسها أمام حاجة ملحة للتحدث بلغة العصر الجديدة.
من ناحية أخرى، يرى أنه لا بد أن يكون هناك تعاون بين الدول في مجالات مهمة تمس الجميع مثل: الاحتباس الحراري والتغير المناخي.
التنظيم القانوني ضرورة ملحة
في استجابة للتطور السريع للتكنولوجيا تمكن الاتحاد الأوروبي من الاتفاق على تشريع غير مسبوق على المستوى العالمي لتنظيم الذكاء الاصطناعي، وأعلن المفوض المكلف الشؤون الرقمية الفرنسي عن التوصل إلى “اتفاق سياسي” بشأن تشريع يهدف إلى تشجيع الإبداع في أوروبا في هذه التكنولوجيات المتقدمة، مع الحد من إساءة استخدامها المحتملة.
وفي وقت سابق، أعلن البيت الأبيض عن ما وصفها بـ”أهم إجراءات اتخذتها حكومة أميركية لتعزيز مواصفات السلامة في حقل الذكاء الاصطناعي”.
وعلى صعيد الشركات، دعا ساندر بيشاي رئيس شركة التكنولوجيا وخدمات الإنترنت الأميركية العملاقة غوغل إلى وضع ضوابط قانونية للتكنولوجيا الجديدة، في الوقت الذي يشتد فيه السباق بين شركات التكنولوجيا للسيطرة على حلول الذكاء الاصطناعي.
ولكن هذه الخطوات تبقى فردية وعلى نطاق ضيق، إذ يرى استشاري التكنولوجيا هاني محمود أنها غير كافية وأن وجود تنظيم قانوني يجب أن يكون على عدة أصعدة يبدأ من الشركات المحلية وعلى مستوى القوانين المحلية والدولية، ومن الضروري وجود قوانين موحدة تكون مثلا على شكل اتفاقيات دولية، بدوره ينعكس الأمر على حماية المستهلكين من القرارات المتحيزة والتي تحتوي على تمييز تسببها خوارزميات الذكاء الاصطناعي، كما تعزز من الشفافية.
ويؤكد أن تشريع قوانين دولية ستضمن وجود مساءلة قانونية لمطوري تلك الخوارزميات والأنظمة ومحاسبتهم، إلا أن هذه القوانين يجب أن ترتكز على التوازن بين المرونة والاستقرار، وبين الابتكار والحماية، وبين المصالح الفردية والجماعية.
وفي النهاية، لا نبالغ إذا قلنا إن التطور السريع لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يحتاج من الدول قدرة هائلة على فرض سيادتها وسيطرتها عليه، لا يكون ذلك إلا من خلال قوانين وتشريعات تجعل منها آمنة ومتاحة للجميع بدلا من سيناريوهات يخشاها الباحثون وبعض الدول تتمثل في امتلاك الذكاء الاصطناعي لمطور واحد يملك سيطرة هائلة على العالم.
زر الذهاب إلى الأعلى