عندما شُكّلت أندية كرة القدم أواخر القرن 19، لم تكن الشعارات والأشرطة الخاصة بها من تصميم متخصص بل اعتنى بها المشاركون في إنشاء النادي والمساهمون بملكيته. ولذلك، كان التركيز على إظهار البيئة التي وُلِد بها النادي.
أما الآن، وفي ظل هذا التحوّل البصري الذي يشهده العالم، من العميق والمفصل إلى البسيط الواضح السلس، أصبحت الأندية بحاجة ماسة لضبط القمصان والشعارات حتى تتماشى مع المشجعين الجدد.
وفي ضوء ذلك أعلن أرسنال قبل أيام قليلة عن تحديث جِذري في هويته البصرية، بتبديل الشعار الموجود حاليًا على القميص المكتوب عليه عبارة “أرسنال” في شكل شبه بيضاوي، إلى شعار “المدفع” فقط. ووفقًا لما نشرته صحيفة “ذي أثلتيك” فإن شعار النادي التقليدي لن يعود قيد الاستخدام بدءًا من الموسم القادم.
ويعتبر أرسنال الملقب بالمدفعجية محظوظًا بهذا الصدد، لامتلاكه أيقونات بصرية غنية وتاريخية، مما جعله قادرًا على تطويع لغة بصرية فريدة من نوعها تجمع بين عناصر التراث والتصميمات الحداثية، ففي حين أنه يستخدم المدفع شعارا يزين به القميص الثالث لهذا الموسم، إلا أن القرار جاء باعتبار “المدفع” هو الشعار الوحيد المزيّن لقمصان النادي الثلاثة بدءًا من الموسم القادم 2024-2025.
فقدان الهوية
هناك مرجعيات ثقافية هامة يعتمد عليها المشجعون في بناء علاقة قوية مع النادي، أهمها الشعارات والقمصان، ولذلك يولي ملاك الأندية اهتمامًا كبيرًا بمتاجر النادي، ولابد أن تتماس أطقم النادي مع تاريخه وتقاليده المتجذرة، ولذلك فإن أي تغيير في الشارة أو الألوان يعتبره المشجعين مثالًا واضحًا على “فقدان الهوية” أو فقدان التواصل مع المشجعين المخلصين.
فالشعار ليس مجرد حيلة تسويقية، أو مساحة واهية لملء القميص فقط. بل على العكس، شارة النادي هي هويته، بل وتتعامل معاملة “العلم” بالدول الحديثة، فهي أول ما يفكر فيه الناس عند الحديث عن النادي، وهي معقل القبلية الأخير، حيث الكل مصطف تحت شعار واحد يجمعهم، وإن تغير هذا الشعار، فإنك تتخلص تلقائيًا من سنوات طويلة، وتضرب بنوستالجيا الأجيال القديمة عرض الحائط، إلا إذا كنت واعيًا لذلك التغيير، وأسست له بشكل منظم، حتى يظل معبرًا عن هوية النادي.
تماس مع التاريخ
أصبح “المدفع” مرادفًا لهذا الفريق منذ تأسيسه عام 1886، ويعود ذلك إلى مكان تأسيسه مقاطعة “وولويتش” شمالي العاصمة لندن، وفي المنطقة المشهورة بتصنيع الأسلحة والذخيرة، ورغم أن النادي انتقل إلى ملعب “هايبري” عام 1913، إلا أن لقب “المدفعجية” ظل ملازمًا له، ففي بداية الأمر كان الشعار مكونًا من “3 مدافع” موجهة إلى أعلى وكأنها أعمدة رومانية قديمة.
وحدث التغيير الأول عام 1923، حيث اكتفى المصممون بمدفع واحد فقط موجه ناحية الشرق، ثم تغير اتجاهه للغرب بعد 3 سنوات، وذلك بسبب العداوة الكبيرة بين “الغانرز” وبين الجار “توتنهام” الذي يقع ملعبه غرب ملعب أرسنال، وعام 2002 طُوّر الشعار مرةً أخرى، بشكلٍ يتناسب مع نجاحات النادي اللندني، والأسطورة التي زرعها المدير الفني آرسين فينغر، في موسم اللاهزيمة، حيثُ أعيد توجيه المدفع لناحية الشرق مُجدداً، مع إضافة الأزرق بشكل بارز، وكتابة اسم النادي بخط بسيط وواضح.
مع الأخذ في الاعتبار أن هناك الكثير من الشعارات الإضافية والمختلفة التي استعملها النادي فترات متباينة، مثل شعار “آرت ديكو” المعروض فوق مدخل القاعات الرخامية في ملعب “هايبري” المعقل القديم للنادي، والعائد تاريخه إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حيثُ استخدمه مدرب أرسنال التاريخي “هيربرت تشابمان” في إضفاء طابع خاص لحقبته الممتدة منذ 1925 إلى 1934.
وبحسب ما ذكره الكاتب “سايمون أنجليس” مؤلف كتاب “ملاعب كرة القدم في إنجلترا وويلز” فإن أول ما فكر به تشابمان، عند توليه إدارة النادي عام 1925، هو وضع هوية بصرية تلائم المرحلة الجديدة، ولا تتعارض مع إمكانيات النادي المادية، ولذلك ابتكروا رمزًا جديدًا يبدأ بالحرف “إيه” (A) متداخل مع الحرف “سي” (C) وبينهما “كرة قدم” مما يعد قطعة رائدة في العلامات التجارية للشركات، وهناك أيضًا الحرف الأسود التراثي “إيه” (A) الذي ظهر بالإصدارات السابقة من القميص، ويمكن رؤيته الآن على مجموعة متنوعة من سلع أرسنال.
المزيد من الأموال
هذا المنظور الشاعري والتاريخي، المرتبط بالمشجعين القدامى وأهل المدينة فقط، يتناسى أشياءً في غاية الأهمية مثل الأرباح والانتشار والعولمة، والتي كانت السبب الرئيسي لتوغل نفوذ الأندية وشعبيتها، فأندية الكرة لم تعد مجرد شركات محلية تنتمي لمدينتها فقط، بل أصبحت شركات عملاقة متعددة الجنسيات، وينتمي لها الملايين، بل وتعمل كماركات أزياء أيضًا، ولذلك يجب على الشعار أن يحمل توازنًا بين المشجعين التقليديين في المدينة، وباقي المشجعين حول العالم.
وتتمتع الأندية بحضور كبير على وسائل التواصل، بل ويضم بعضها أكثر من 100 مليون متابع على منصات مثل “فيسبوك” و “إنستغرام” ولذلك وجب تبسيط الشعارات المعقدة والمليئة بالتفاصيل، إلى شعارات أكثر بساطة، ويمكن التعرف عليها بسهولة على شاشة الهاتف الصغيرة، مما يستدعي التخلص أيضًا من تصميمات الـ “السكيموفوريك” التي تحاكي أشياء في العالم الحقيقي، لصالح التصميمات المسطحة، والأشكال ثنائية الأبعاد.
وبناء على ذلك، خضعت العديد من الشعارات السنوات الأخيرة لعمليات تجميل أدخلتها في عالم التصاميم الحداثية وتيار “المينيماليزم” الغالب على تفكير الجيل الحالي من الشباب، مثل نادي يوفنتوس، الذي استبدل الشعار البيضاوي الشهير، ذا الخطوط السوداء والبيضاء بشعار به حرف “جيه” (J) كبير ملتصقًا بحرف “جيه” (j) صغير فقط، مما جعله أكثر حداثة وتجريدًا وأكثر قابلية للتذكر.
فعندما أصبح هدف الملاك هو نقل يوفنتوس من مجرد فريق كرة، إلى علامة تجارية ضخمة، لها أسلوبها الخاص الملائم لمتطلبات العصر، جنحوا إلى تغيير الشعار ليتماشى مع تلك الرؤية، ويبدو أن أرسنال يريد أن يسير في هذا الطريق، بتصميم بسيط وواضح يعرفه الجميع، ويرضى عنه المشجعون القدامى، ولكنه أكثر تماشيًا مع الحداثة، خاصة بعد النجاحات الكبيرة التي يحققها الفريق المواسم الماضية، والتي ستستقطب عاجلًا أم آجلًا جمهورًا جديدًا من الشباب حديثي السن.
المصدر : الجزيرة
زر الذهاب إلى الأعلى