اخبــار محليـةالرئيسيــة

مدرسة الشيخ باغريب بتريم وثمانمائة عام من التنوير

تميزت حضرموت منذ غابر الأزمان إنها مصدر للإشعاع العلمي والتنوير الحضاري، وأسهمت بما يربو عن ألفي سنة قبل الميلاد برفد الإنسانية بمعارف عن الفلك والزراعة والملاحة والبناء والحساب وفكر اللاهوت الذي كان سائداً آنذاك.
وتعاظم دور حضرموت بعد دخولها الإسلام، وخرج منها المجاهدون الفاتحون الذين حملوا رايات الإسلام إلى كل أصقاع المعمورة، وبرز من أبناء حضرموت العلماء الثقاة والدعاة المخلصون الذين يعود الفضل إليهم بدخول ما يقارب أكثر من نصف عدد المسلمين في العالم حالياً من دول شرق آسيا.
تريم القلب النابض:
مدينة تريم قلب حضرموت النابض إلى اليوم وقبلة طلاب العلم الإسلامي المعتدل، الذين يفدون إليها من شتى البلاد والقارات (آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا) للدراسة برباط تريم ودار المصطفى للدراسات الإسلامية وكلية الشريعة بتريم وعدد من المدارس الإسلامية العتيدة بمدينة الغناء.
هذا التاريخ الحافل بالاجتهاد والمثابرة والحفاظ على العلم الإسلامي ونشره أرسى مداميكه الأولى ثلة من العلماء والمشائخ الأفاضل، وجعلوه منطلقاً إلى آفاق الدنيا ليرسخ مبادئ الوسطية والاعتدال وقيم التسامح والسمو عن الصغائر وفتات الدنيا ومغرياتها.
ما أسلفناه من الذكر يقودنا إلى التطرق لجانب مهم في تاريخ البنيان الأولي للتعليم الإسلامي في حضرموت، للتعرف على إحدى المدارس الدينية بمدينة تريم التي استطاعت بالجهود الذاتية الصادقة لمشائخها الأجلاء حمل مشاعل التعليم ومواجهة الانتكاسات التاريخية التي عانتها حضرموت وإهمال أولي أمرها من الحكام والسلاطين سابقاً وعدم الاضطلاع بدورهم في عملية التعليم وإنشاء المدارس.
ولعل من الإنصاف الأدبي أن نسطر ما تيسر من الكلمات لتبصير القارئ الكريم بدور إحدى أهم المدارس الدينية القديمة في مدينة تريم بحضرموت، التي تعد معلماً تنويرياً أدى دوراً كبيراً في بناء الأجيال المتسلحة بالمعرفة النافعة والوعي، والتي تحملت على عاتقها منذ عدة قرون وحتى الآن خدمة بلدها وأمتها وأسهمت بنشر العلم والدين في كل أرض تصل أقدامهم إليها.
أقدم البؤر العلمية
ويحق لنا القول أن مدرسة الشيخ باغريب الواقعة في حي السحيل بمدينة تريم حضرموت، التي أنشئت في القرن السادس الهجري، تعد من أقدم البؤر العلمية الإسلامية في حضرموت، فهي الحاضن الأول لطلاب العلم والمحطة الأهم في حياتهم المعرفية، حيث تتولى رعايتهم العلمية والأدبية منذ بلوغهم السنوات الخمس من أعمارهم حتى يصلوا إلى عمر الخامسة عشرة، وهم مزودون بالمعارف الأساسية في الدين، ومهيأون للولوج إلى مرتبة التعليم الأعلى لمن رغب منهم بالمواصلة.
ويذكر العلامة/ حامد بن محمد بن شهاب الدين أن المشائخ الأفاضل آل باغريب الذين لهم تاريخ عريق ببلدة تريم المباركة تصدروا التدريس في هذه المدرسة التي سميت باسمهم، وبرز منهم الإمام الشهير الصالح أبو عبدالله محمد بن عبدالله باغريب المتوفى سنة 633هـ والإمام النقيب محمد بن عبدالله باغريب المتوفى سنة 683هـ.
ومنذ أن تولى الشيخ/ محمد النجيب باغريب في مطلع القرن الثامن الهجري وهو من أسرة آل باغريب هذه المدرسة، فقد اهتمت هذه (العلمة) بتدريس القراءة والكتابة والعبادات والحساب.
وسلك التدريس طريقة التلقين والاستهطار مع التركيز على القراءة والكتابة والحساب وأشهر من تخرج منها سعد باغريب ، وعبدالله بن حسين بلفقيه المشهور بمؤلفاته التاريخية.
وكان علماء تريم قد أعتنوا بعلم التجويد عناية لا تقل شأناً عن عنايتهم بعلم القراءات، وقد انبرى منهم في هذا الميدان العديد من المعلمين المهرة المتقنين الذين مارسوا التجويد تدريسا وتلقينا،ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ/عمر بن عبدالله باغريب.
الشيخ عمر باغريب:
وأضاف مؤلف كتاب (الدليل القويم في ذكر شيء من عادات تريم)، أن من أبرز من تولى التدريس في هذه المدرسة المباركة أيضاً الشيخ/عمر بن عبدالله باغريب، ،الذي بلغ مستوى ودرجة إجازة (الكنزية) بالمستوى العلمي بعلوم دين الاسلام، المتوفى سنة 1206هـ بتريم، وهو الذي عاصر الإمام الحبيب حامد بن عمر حامد باعلوي وصحبه صحبة أكيدة.
ويعد الشيخ عمر بن عبدالله باغريب، المتوفي سنة (1207هـ)، من أكابر المعلمين في مدرسة باغريب وقد أطنب في مدحه الحبيب/ علوي بن احمد بن حسن الحداد في كتابه “المواهب والمنن”، وقال: إنه تعلم لديه من السادة أكثر من الألف، منهم الوالد أحمد، والعم حامد بن عمر، ومن في طبقتهم وأولادهم وأولاد أولادهم فقد تعلم عنده والده ثلاث طبقات من أهل تريم غير السادة الألف.، ومن أواخر من علم بها الشيخ الصالح/ عمر بن سعيد بن أبي بكر باغريب، توفي بتريم سنة (1347هـ).
وقد اشتهر المعلم الشيخ/عمر بن عبدالله باغريب بعلمه الوفير وبأسلوبه المتميز والجذاب في التدريس، وبقيامه بتوسعة مساحة المدرسة وحفر بئر خاصة بها، وجعل لها سقاية ماء جارية، ثم تولى التدريس بالمدرسة والقيام بسائر وظائفها ابنه المعلم الفاضل الشيخ/سعيد بن عمر باغريب المتوفى سنة 1378هـ، ثم جاء من بعده ابنه المعلم الفاضل الشيخ/عبدالله بن سعيد باغريب المتوفى سنة 1394هـ ثم تولى من بعده أولاده وذريته إلى يومنا هذا.
ويتولى حالياً (1426هـ)الشيخ/سعد عبدالله بن سعيد باغريب إدارة المدرسة والتدريس فيها وكان يعاونه اخوه المرحوم الشيخ/إبراهيم باغريب في ذلك العمل المشرف، أمد الله في عمر الشيخ. سعد باغريب ونفعنا بعلمه.
باغريب والاعتدال الإسلامي:
ويقوم مشائخ آل باغريب بمهمة التدريس العظيمة والتربية الإسلامية السمحاء حالياً لأبناء مدينة تريم، ويتولون تلقينهم التعاليم الإسلامية الأساسية والآداب النبوية والأمور الواجبة على المسلم من أمور الصلاة والطهارة وتعليم القراءة والكتابة وتعليم القرآن الكريم وختمه وحفظ سوره.
ويقوم آل الشيخ باغريب بتلكم المهام منذ مئات السنين، وما زالوا، دون أي مقابل – مجاناً لوجه الله الكريم ـ لا يأخذون بذلك أي مال وغايتهم هي خدمة دينهم وأبناء المسلمين، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خيراً كثيرا.ً
أشهر المدارس بحضرموت:
ويقول العلامة حامد بن محمد شهاب الدين إن مدرسة باغريب تعتبر من أشهر المدارس الأولية للأولاد في بلدة تريم الطيبة، وهي مشهورة بالفتوح العظيمة ومجربة بالنفع الجسيم لكل من دخلها واستسقى من معينها العذب.
ولقد كان الآباء يدفعون أبناءهم للدراسة في مدرسة الشيخ باغريب تحديداً نتيجة لسمعتها وجديتها التي اكتسبتها في التدريس، ولشهرة أساتذتها من المشايخ آل باغريب لاعتبارها المرحلة التعليمية الأساسية الأولى التي تهيئ الطالب وتجعله في مستوى علمي قوي يؤهله للدخول إلى «رباط تريم» لمواصلة دراسته إلى مرتبة رفيعة من العلم دون أي تعثر.
وقد درس وتتلمذ في مدرسة الشيخ باغريب وانتفع منها الألوف المؤلفة من الطلاب على مدى قرون من الزمان وإلى وقتنا الحاضر هذا، وهناك كثير من طلابها ممن سطعت أسماؤهم في سماء العلم والسلطة والقيادة. وقد جددت عمارة مدرسة الشيخ باغريب سنة 1323هـ ، وتم ترميم مواضع التشققات التي أصابتها بفعل الزمن، حيث أصبحت بعد تجديدها حينذاك زاهية المنظر وأعيد بهاء جدرانها وأعمدتها وشكلها الهندسي المتميز.
بافضل وعمارة المدرسة:
وفي ذلك أنشأ الشيخ العلامة/ محمد بن عوض بافضل بتريم (سنة 1369هـ) أبياتاً شعرية في تجديد عمارتها واصفاً جمال البناء وبركته وما يتم فيه من قراءة للقرآن ودوره في تنوير العقول، وقال رحمه الله تعالى:
لله ما أبهى وأجمل ذا البناء
إذ لاحت الأنوار فيه والسناء
تتنزل الرحمات في أرجائه
من ذي المواهب والمحامد والثناء
يتلى بها القرآن بالألحان والـ
منح العظيمة فيه يانعة الجنى
قد ما تأسس بين ظهراني هذا
الحائرين أولي الزهادة والدنا
ولكم أتاه بليد ذهن أبكم
فغدا بآيات المهيمن متقنا
ذا مكتب من يأته متبركا
فله الهنا فله الهنا فله الهنا
فيه المآرب كلها مقضية
وكذا يجاب دعاء من يدعو هنا
صدق ولا تنكر فترمى بالسهام
الصائبات وكن بهذا مؤمنا
من يأته بشرى له بالفتح السني
من يأته يظفر بغايات المنى
لما انتهى تجديده بعمارة
تحوي من الصنع البديع الاحسنا
نودي مؤرخه يأته قل
إنا فتحنا لك فتحا بينا.
مواجهة الصعوبات:
ولم يعرف عن مدرسة الشيخ/ باغريب أنها أغلقت أبوابها بوجه طلابها طوال تاريخها العتيد إلا في العام 1974م، عندما أصدرت السلطات الحكومية وقتذاك أمراً بإغلاق المدرسة وإيقاف التدريس فيها، حيث كان عدد طلابها حينها يناهز المائتي طالب، واستمرت المدرسة مغلقة حتى قيام الوحدة اليمنية عام 1990م لتعيد فتح أبوابها لمريديها مرة أخرى، ولكن وخلال الأعوام الخمسة عشر الماضية لم يعد عدد الطلاب الدارسين فيها يضاهي ما كانت عليه المدرسة قبل عام الإغلاق، فقد تناقص العدد ليصل حالياً إلى بضع عشرات من الطلاب، بسب أن معظم الطلاب حالياً يتجهون إلى المدارس الابتدائية والإعدادية ذات المناهج الحديثة السهلة ولا يفضلون الدراسة الجادة والمفيدة.
ورغم مضي أكثر من ثمانمائة عام (600هـ – 1426هـ) على تأسيس مدرسة الشيخ باغريب بتريم حضرموت والمهام النبيلة التي أدتها طوال تاريخها في نشر المعرفة والعلم وروح الوسطية والاعتدال ومحاربة الجهل وضخ الأجيال المتنورة إلى المجتمع، فإن حالها اليوم لا يسر أحداً فالسلطات المحلية حتى الآن لم تعط هذه المدرسة حقها في التكريم والمكانة أو الرعاية والاهتمام الذي يليق بدورها وتاريخها، فالمدرسة حتى اللحظة لم تتلق أي شكل من أشكال التكريم المعنوي، ولم يطرأ عليها أي تجديدات أو توسعات تحتاجها لمواكبة التطورات المتسارعة في العلوم العصرية أو في الوسائل التعليمية، كما أن مكتبتها تعاني قدم كتبها وعدم تزويدها بكتب جديدة، وهي أمور نعتقد أنها ضرورية رغم أن القائمين على المدرسة ينفقون على احتياجاتها كاملة من مالهم الخاص.
هل من مجيب؟
ونحن هنا لا يحضرنا إلا أن نذكر الكلمات التي أطلقها العلامة/ محمد بن أحمد الشاطري عن هذه المدرسة حين
قال:من الظلم وهضم الحقوق أن يترك هذا الأثر العظيم
«مدرسة الشيخ باغريب» في زاوية الإهمال واللا مبالاة .. فهل من مجيب؟
المراجع:–
بتصرف – حامد بن محمد بن عبدالله بن شهاب الدين (الدليل القويم في ذكر شيء من عادات تريم)، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، الطبعة الأولى 2002م ص 182، 183، 184، 185.< بتصرف – محمد بن أحمد الشاطري (أدوار التاريخ الحضرمي) دار المهاجر للنشر والتوزيع، المدينة المنورة، السعودية، توزيع مكتبة تريم الحديثة، الطبعة الثالثة 1994م، ص 426.< بتصرف – معجم بلدان حضرموت، توزيع مكتبة تريم الحديثة.< بتصرف – مخطوطة للمؤرخ عبدالقادر الصبان باغريب.. (حضرموت).< مشاهدات ذاتية للكاتب.
مشــــاركـــة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى