الرئيسيــةتقـــارير

الاصطفاف الوطني الجنوبي.. التحول الأكبر لقضية شعب الجنوب

منارة عدن/ محمد الزبيري

شهد الجنوب العربي في الأيام القليلة الماضية واحدة من أهم اللحظات السياسية في تاريخه المعاصر، لحظة يمكن القول إنها تُعيد تشكيل المشهد كاملاً وترسم الملامح الأولية للدولة القادمة.
إعلان القوى الوطنية الجنوبية—بأحزابها ونقاباتها ومنظماتها وشخصياتها المؤثرة اصطفافها الكامل خلف المجلس الانتقالي الجنوبي لم يكن حدثاً عادياً، بل زلزالاً سياسياً صامتاً امتد تأثيره من ساحات عدن إلى وادي حضرموت، ومن شبوة إلى المهرة، ومن الضالع إلى لحج وأبين.
ولأول مرة منذ عقود طويلة، بدا الجنوب جسداً واحداً، يتحدث بصوت واحد، ويحدد هدفاً واحداً لا تراجع عنه: استعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة.

هذه اللحظة تبدو خلاصة مسار طويل من التجارب والخسائر والانتصارات، لحظة نضج ووعي جمعي وصل إليها الجنوبيون بعد ثلاثين عاماً من التهميش ومحاولات الطمس والهيمنة. لذلك، فإن الاصطفاف الذي تشهده الساحة الجنوبية اليوم ليس مجرد توافق سياسي، بل نقطة تحول تاريخية تأتي في سياق تراكم الوعي، وعمق الألم، وكلفة التضحية، وإصرار شعبٍ رفض أن يتحول إلى هامش في وطنه.

*عقود من الظلم

لم يأتِ الاصطفاف الوطني الجنوبي مجرد ردّ فعل آني على ممارسات سياسية طارئة، بل تشكّل عبر عقود طويلة من الاصطدام المباشر مع مشروع الهيمنة الشمالية الذي تعامل مع الجنوب باعتباره غنيمة لا شريكاً.
فمنذ حرب صيف 1994، والتي دشّنت مرحلة الاجتياح الشامل للجنوب، بدأت ملامح الشرخ العميق تتجذّر في الوعي الجنوبي، حيث مارست القوى الشمالية، بمختلف أطيافها السياسية والعسكرية، سياسات الإقصاء والاستحواذ ونهب الثروات وإضعاف المؤسسات الجنوبية بشكل ممنهج ومقصود.

وبعد العام 2015، ورغم أن الحرب فتحت نافذة أمل للتصحيح، أعادت القوى الشمالية إنتاج نفس العقلية بنسخة أكثر قسوة، مستغلّة الفوضى للسيطرة على القرار السياسي والثروات الجنوبية عبر أدوات متعددة.

هذا الإرث الطويل من التجارب المؤلمة كوّن لدى الجنوب قناعة نهائية بأن العلاقة مع القوى الشمالية لم تعد قابلة للإصلاح أو الشراكة. وكانت حوادث الاغتيالات، وتدمير المؤسسات، وتهميش القيادات الجنوبية، والاعتداءات المتكررة على عدن والمحافظات الأخرى، شواهد دامغة على جسامة الانتهاكات التي مورست بحق الجنوب.

مع صعود المجلس الانتقالي الجنوبي، شعر المواطنون بأن ثمة قوة وطنية قادرة على استعادة حقهم، وأن الاصطفاف خلفها ليس خياراً سياسياً فحسب، بل واجباً وطنياً تُحتمه تجارب الماضي. ولذلك، جاء الاصطفاف الحالي امتداداً لمسار نضالي طويل، متدرج، وواضح الهدف، ينهل من ذاكرة شعب خبر كل أشكال الخذلان والعدوان، ولم يعد يثق بأي مشروع عابر للهوية الجنوبية.

*جذور الاصطفاف

لا يمكن فهم هذا الاصطفاف الوطني العريض دون العودة إلى جذور المعاناة التي عاشها الجنوب منذ حرب صيف 1994، حين تحوّل الجنوب إلى ما يشبه “غنيمة حرب” للقوى الشمالية المنتصرة.

منذ اللحظة الأولى لفرض الوحدة بالقوة، بدأت عمليات تفكيك المؤسسات الجنوبية على نطاق واسع، وتسريح عشرات الآلاف من الجنود والضباط، والاستيلاء على الشركات العامة والأراضي والموانئ والمطارات، وتهميش الكوادر الجنوبية في كل وزارات الدولة.
ولعل شهادة العميد المتقاعد عباس ناجي تختصر تلك المرحلة حين قال: “صحوتُ ذات صباح بعد الحرب لأجد اسمي خارج الخدمة، وملفي مغلق، ومسؤولي يقول لي بكل بساطة: انتهت مهمتك، عد إلى بيتك.”
ما حدث للعميد عباس تكرر مع آلاف آخرين فقدوا وظائفهم وحقوقهم، وتحوّلوا فجأة إلى مواطنين بلا دور، في وطن كان لهم فيه مؤسسات وجيش ودولة.
ومع مرور السنوات، تراكم الإحساس بالظلم إلى درجة أصبح معها الجنوب يعيش حالة حصار اقتصادي وسياسي وثقافي.
أبناء عدن يروون كيف أُغلقت المصانع والمصافي وجرى تدمير البنى التحتية، وكيف تحولت المدينة التي كانت قلب الاقتصاد إلى عاصمة تُنهب مواردها يومياً.
في حضرموت، يروي المهندس سالم باحميش كيف فُرض على شركات النفط توجيه الموارد إلى صنعاء، بينما كانت مدن الوادي تعاني الفقر والإهمال، وتعيش في ظل انتشار التشكيلات العسكرية الشمالية.

أما في شبوة، فيحكي الشيخ محمد بالحارث كيف جرى تحويل المحافظة إلى أرض مفتوحة للنهب، بل وإلى ممر للجماعات المسلحة التي كانت تستخدم غطاء الدولة لتوسيع نفوذها.
هذه القصص ليست مجرد حكايات فردية؛ إنها اللبنات التي كوّنت في النهاية “الوعي الجنوبي الجديد”، الوعي الذي يرى في التحرير والاستقلال ليس مجرد خيار سياسي، بل ضرورة وجودية.
ومع كل حرب كانت تُشنّ على الجنوب، كان يتسع شعور الجنوبيين بأن وحدتهم هي الطريق الوحيد للخلاص ومن هنا، جاء الاصطفاف الأخير كتعبير عن تراكم تاريخي طويل من الإحساس بأن الجنوب لا يمكن أن يعيش دولة حقيقية إلا إذا استعاد دولته.

*الميثاق الوطني الجنوبي

منذ أن اجتمعت القوى الوطنية الجنوبية بكل أطيافها في عدن لصياغة “الميثاق الوطني الجنوبي”، بدا واضحاً أن الجنوب يدخل مرحلة جديدة تتجاوز العفوية السياسية إلى بناء مشروع مؤسسي واضح المعالم.
هذه الوثيقة لم تكن مجرد ورقة عمل عابرة، بل كانت نتيجة أشهر من النقاشات بين الأحزاب والشخصيات الاجتماعية والنقابات والمرأة والشباب، وتمثل للمرة الأولى رؤية متكاملة لشكل الدولة الجنوبية المقبلة.
حدد الميثاق مبادئ العدالة والمواطنة، وركائز النظام الفيدرالي، وآليات إدارة الموارد، وضمانات عدم تكرار أخطاء الماضي، ووضع إطاراً ينظم العلاقة بين المكونات السياسية كافة. والأهم أنه قدّم تصوراً عملياً لمرحلة ما بعد الاستقلال، سواء من ناحية المؤسسات، أو توزيع الصلاحيات، أو بناء الاقتصاد الوطني.
حين اختارت القوى الوطنية أن تستند في إعلانها للميثاق، فإنها لم تكن تعلن فقط دعمها للمجلس الانتقالي، بل تعلن التزامها الكامل برؤية شاملة متوافق عليها وهذا التحول من الفعل السياسي العفوي إلى الفعل المؤسسي هو ما جعل الاصطفاف قوياً ومتماسكاً، لأنه لم يُبنَ على اللحظة، بل على وثيقة وطنية اعتُمدت كمرجعية.

لقد أعاد الميثاق للمشروع الجنوبي عمقه المؤسسي، ومنحه الشرعية القانونية والسياسية، وأكد أن الجنوب لم يعد يتحرك برد الفعل، بل وفق خارطة طريق واضحة تبني دولة لا مجرد سلطة.

*الالتفاف حول القيادة

في مشهد الاصطفاف الأخير، بدت القيادة الجنوبية موحدة بشكل واضح حول الرئيس القائد عيدروس الزُبيدي وهذا الالتفاف ليس مجرد دعم شكلي، بل هو اعتراف بدور رجل استطاع خلال سنوات قليلة أن يتحول من قائد مقاومة إلى رمز وطني جامع يمتلك القدرة على إدارة الملفات السياسية والعسكرية والاقتصادية المعقدة.
الزُبيدي بالنسبة لكثير من الجنوبيين يمثل “الضمانة السياسية” التي يحتاجون إليها في هذه المرحلة الحرجة.

رجل يمتلك شبكة علاقات إقليمية واسعة، ويحظى باحترام الميدان العسكري، ويتمتع بثقة الشارع، ويستطيع التحدث باسم الجنوب بوضوح وثبات.
في تصريحات للأستاذ الأكاديمي ناصر الهدياني، قال: “لم يحدث منذ 30 عاماً أن اجتمعت القوى الجنوبية على قيادة واحدة كما تفعل اليوم خلف الزُبيدي وهذا مؤشر لا يخطئ على أننا نقترب من لحظة الاستقلال.”
هذا الالتفاف منح المجلس الانتقالي شرعية مضاعفة: شرعية شعبية تأتي من الشارع، وشرعية سياسية تأتي من الأحزاب، وشرعية نضالية تأتي من واقع الحرب والدماء التي قدمها الجنوبيون دفاعاً عن أرضهم.

*القوات المسلحة الجنوبية

من دون قوة عسكرية موحدة، لا يمكن لأي مشروع سياسي أن يصمد. هذه حقيقة أدركها الجنوبيون مبكراً، ولذلك تحوّلت القوات المسلحة الجنوبية خلال السنوات الماضية إلى مؤسسة وطنية تمتلك عقيدة قتالية واضحة: حماية الجنوب والدفاع عن مشروع الاستقلال.
في شبوة، يتذكر المواطن علي باقطمي كيف دخلت القوات الجنوبية إلى بيحان في أصعب الظروف وحررت المدينة من الحوثيين وفي الضالع، يروي المقاتلون كيف صمدوا شهوراً طويلة في جبهات مريس وحجر والفاخر، رغم قلة الإمكانيات، فقط لأنهم كانوا يؤمنون بأنهم يدافعون عن مستقبل وطن.
أما في حضرموت، فإن وجود قوات النخبة الحضرمية في المكلا والساحل أعاد الأمن إلى مدينة كانت مخنوقة بالإرهاب ورغم كل الضغوط، ظلت هذه القوات مثالاً على الانضباط والحرفية.

جاء الاصطفاف السياسي الأخير ليمنح هذه القوات شرعية مضافة، لأن دعم القوى الوطنية يعني أن الجيش ليس مجرد قوة ميدانية، بل جزء من مشروع سياسي وطني شامل.

*تحصين الجبهة الداخلية

إن أخطر ما يمكن أن يواجهه مشروع الاستقلال هو الانقسام الداخلي. ولذلك حاولت القوى المعادية للجنوب طوال السنوات الماضية تفجير الصراعات الداخلية، سواء عبر الإعلام أو المال السياسي أو محاولات خلق أجنحة متناحرة داخل المجتمع.
لكن إعلان الاصطفاف الأخير أسقط هذه المحاولات، وأكد أن الجنوب اليوم أقوى من أي محاولة للاختراق.

النقابات العمالية التي كانت تعمل في جزر منفصلة باتت تتحدث اليوم بصوت واحد. منظمات المجتمع المدني أصبحت جزءاً من المعركة الوطنية. والقيادات السياسية التي كانت تتباين مواقفها اجتمعت على هدف استعادة الدولة.
وفي مقابلة مع الناشطة الاجتماعية أزهار الضالعي قالت: “هذه أول مرة أشعر فيها أن القوى الجنوبية أصبحت كتلة واحدة الخلافات تلاشت، والهدف أصبح واضحاً.”

ما يميز هذه الوحدة أنها ليست وحدة قسرية، بل اختيار وطني صريح نابع من إدراك أن الجنوب أمام مفترق طرق تاريخي، وأن التماسك الداخلي هو السلاح الأول لمواجهة الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية التي تُفرض عليه.

*قوة الاصطفاف الورقة التفاوضية

الاصطفاف الوطني الذي حدث في الجنوب لم يكن تأثيره داخلياً فقط؛ بل أحدث صدى واسعاً لدى الشركاء الإقليميين والدوليين.
فالمجتمع الدولي الذي كان ينظر إلى الجنوب كملف مؤجل، بات اليوم يرى في المجلس الانتقالي شريكاً حقيقياً يمتلك قاعدة شعبية واسعة وقدرة على ضبط الأرض وإدارة الملفات.

لقد أثبت الجنوب بكل وضوح أنه لم يعد ساحة صراع متعددة اللاعبين، بل كيان سياسي يمتلك قيادة واحدة وصوتاً واحداً وهذا التحول يضع العالم أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها: أي تسوية سياسية في اليمن لن تنجح دون الاعتراف بدور الجنوب كطرف مستقل وأصيل في المعادلة.
ومن خلال الاصطفاف، أكد الجنوب أنه جاهز للجلوس على طاولة التفاوض من موقع قوة، وأنه لا يدخل التفاوض لتجميل وضعه، بل لانتزاع حقه الكامل في تقرير مصيره.

*المستقبل السياسي للجنوب

يمثل الاصطفاف الوطني الجنوبي محطة تأسيسية في صياغة مستقبل الدولة الجنوبية، حيث تتقاطع الإرادة الشعبية الراسخة مع رؤية سياسية واضحة تقودها مؤسسات المجلس الانتقالي الجنوبي.
ورغم التحديات الاقتصادية والظروف المعقدة التي تعيشها المنطقة، إلا أن الجنوب يمتلك اليوم فرصة نادرة لإعادة تأسيس دولته الحديثة، مستفيداً من عوامل داخلية وخارجية باتت تصب في صالحه. فمن الداخل، هناك مشروع سياسي موحد، جيش جنوبي منظم، حاضنة شعبية واسعة، وقدرة متنامية على إدارة المحافظات المحررة، وهي مقومات لم تتوفر لأي مشروع جنوبي منذ عقود.

أما من الخارج، فقد باتت القوى الإقليمية والدولية تنظر إلى الجنوب باعتباره لاعباً رئيسياً في أمن البحر العربي وباب المندب والتوازن الإقليمي، ما يمنحه أهمية استراتيجية لا يمكن تجاهلها في أي تسوية قادمة.

إن الدولة الجنوبية القادمة لا تُبنى فقط على أساس التحرير العسكري، بل على رؤية اقتصادية وتنموية وإدارية شاملة، تعالج مشكلات الخدمات، وتعيد بناء المؤسسات، وتنظم استغلال الثروات النفطية والمعدنية بما يخدم المواطن الجنوبي. ويأتي الاصطفاف الوطني ليضع الأساس السياسي لهذا البناء، مؤكداً أن الجنوب قادر على صياغة نظام سياسي حديث يقوم على الفيدرالية، والشفافية، والشراكة المجتمعية، والعدالة.

ومع اتساع الإدراك العالمي بأن الاستقرار الإقليمي لا يمكن تحقيقه دون قوة جنوبية مستقرة وفاعلة، يصبح مشروع الدولة أكثر قابلية للتحقق، خاصة في ظل قيادة جنوبية تمتلك الشرعية الشعبية، والقدرة العسكرية، والبرنامج السياسي الواضح.

*الاستقلال الثاني

كل هذه التحولات من الوعي الجمعي، إلى الميثاق، إلى الالتفاف، إلى القوة العسكرية، إلى الرسائل الدولية تتقاطع في نقطة واحدة: أن الشعب الجنوبي قرر أن يسير نحو الاستقلال الثاني بلا تردد.
الاستقلال اليوم لم يعد شعاراً يرفعه الشباب في الساحات، بل مشروع دولة تبنيه الأحزاب والمجلس الانتقالي والقوات المسلحة والمجتمع المدني.

إن المرحلة المقبلة ستكون الأكثر حساسية، لكنها أيضاً الأكثر وضوحاً. فالجنوب بات يعرف ما يريد، ويعرف الطريق، ويملك الإرادة والقوة والأدوات، وهذا ما يجعله أقرب من أي وقت مضى إلى استعادة الدولة التي انتُزعت منه ظلماً قبل ثلاثة عقود.
هذه اللحظة ليست مجرد لحظة سياسية؛ إنها لحظة صناعة تاريخ جديد، تكتبها إرادة أمة قررت أن تعود إلى مكانها الصحيح فوق خارطة العالم.

مشــــاركـــة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى